فصل: المسألة السابعة: في بيان عدد آيات هذه السورة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فثبت أن الأنبياء عليهم السلام كلما شرعوا في عمل من أعمال الخير ابتدؤا بذكر {بسم الله الرحمن الرحيم}، والمقدمة الثانية: أنه لما ثبت هذا في حق سائر الأنبياء وجب أن يجب على رسولنا ذلك، لقوله تعالى: {أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] وإذا ثبت ذلك في حق الرسول وجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى: {واتبعوه} وإذا ثبت وجوب قراءته علينا ثبت أنه آية من الفاتحة، لأنه لا قائل بالفرق.
الحجة الرابعة عشرة: أنه تعالى متقدم بالوجود على وجود سائر الموجودات؛ لأنه تعالى قديم وخالق وغيره محدث ومخلوق، والقديم الخالق يجب أن يكون سابقًا على المحدث المخلوق، وإذا ثبت أنه تعالى سابق على غيره وجب بحكم المناسبة العقلية أن يكون ذكره سابقًا على ذكر غيره، وهذا السبق في الذكر لا يحصل إلا إذا كان قراءة {بسم الله الرحمن الرحيم} سابقة على سائر الأذكار والقراءات، وإذا ثبت أن القول بوجوب هذا التقدم حسن في العقول وجب أن يكون معتبرًا في الشرع لقوله عليه الصلاة والسلام: «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن»، وإذا ثبت وجوب القراءة ثبت أيضًا أنها آية من الفاتحة، لأنه لا قائل بالفرق.
الحجة الخامسة عشرة: أن {بسم الله الرحمن الرحيم} لا شك أنه من القرآن في سورة النمل ثم إنا نراه مكررًا بخط القرآن، فوجب أن يكون من القرآن كما أنا لما رأينا قوله تعالى: {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} [الرحمن: 13] وقوله تعالى: {وَيْل يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} [المرسلات: 10] مكررًا في القرآن بخط واحد وصورة واحدة، قلنا: إن الكل من القرآن.
الحجة السادسة عشرة: روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتب في أول الأمر على رسم قريش باسمك اللهم حتى نزل قوله تعالى: {اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41] فكتب بسم الله فنزل قوله: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} [الإسراء: 110] فكتب بسم الله الرحمن فلما نزل قوله تعالى: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} [النحل: 30] كتب مثلها، وجه الاستدلال أن أجزاء هذه الكلمة كلها من القرآن، ومجموعها من القرآن، ثم إنه ثبت في القرآن فوجب الجزم بأنه من القرآن، إذ لو جاز إخراجه من القرآن مع هذه الموجبات الكثيرة ومع الشهرة لجاز إخراج سائر الآيات كذلك، وذلك يوجب الطعن في القرآن.
الحجة السابعة عشرة: قد بينا أنه ثبت بالتواتر أن الله تعالى كان ينزل هذه الكلمة على محمد عليه الصلاة والسلام وكان يأمر بكتبه بخط المصحف، وبينا أن حاصل الخلاف في أنه هل هو من القرآن فرجع إلى أحكام مخصوصة مثل أنه هل يجب قراءته، وهل يجوز للجنب قراءته، وللمحدث مسه؟ فنقول: ثبوت هذه الأحكام أحوط فوجب المصير إليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: دع ما يريبك إلا ما لا يريبك.
واحتج المخالف بأشياء: الأول: تعلقوا بخبر أبي هريرة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: {العبد الحمد لله رب العالمين} يقول الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرحمن الرحيم} يقول الله تعالى: أثنى علي عبدي وإذا قال: {مالك يوم الدين} يقول الله تعالى: مجدني عبدي، وإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} يقول الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي». والاستدلال بهذا الخبر من وجهين: الأول: أنه عليه الصلاة والسلام لم يذكر التسمية، ولو كانت آية من الفاتحة لذكرها، والثاني: أنه تعالى قال: جعلت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، والمراد من الصلاة الفاتحة؛ وهذا التنصيف إنما يحصل إذا قلنا إن التسمية ليست آية من الفاتحة، لأن الفاتحة سبع آيات فيجب أن يكون فيها لله ثلاث آيات ونصف وهي من قوله الحمد لله إلى قوله إياك نعبد وللعبد ثلاث آيات ونصف وهي من قوله وإياك نستعين إلى آخر السورة أما إذا جعلنا {بسم الله الرحمن الرحيم} آية من الفاتحة حصل لله أربع آيات ونصف، وللعبد آيتان ونصف، وذلك يبطل التنصيف المذكور.
الحجة الثانية: روت عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة ب {الحمد لله رب العالمين}، وهذا يدل على أن التسمية ليست آية من الفاتحة.
الحجة الثالثة: لو كان قوله {بسم الله الرحمن الرحيم} آية من هذه السورة: لزم التكرار في قوله {الرحمن الرحيم} وذلك بخلاف الدليل.
والجواب عن الحجة الأولى من وجوه: الأول: أنا نقلنا أن الشيخ أبا إسحاق الثعلبي روى بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر هذا الحديث عد {بسم الله الرحمن الرحيم} آية تامة من سورة الفاتحة، ولما تعارضت الروايتان فالترجيح معنا، لأن رواية الإثبات مقدمة على رواية النفي.
الثاني: روى أبو داود السختياني عن النخعي عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وإذا قال العبد: {مالك يوم الدين} يقول الله تعالى: مجدني عبدي وهو بيني وبين عبدي»، إذا عرفت هذا فنقول: قوله في {مالك يوم الدين} هذا بيني وبين عبدي، يعني في القسمة، وإنما يكون كذلك إذا حصلت ثلاثة قبلها وثلاثة بعدها، وإنما يحصل ثلاثة قبلها لو كانت التسمية آية من الفاتحة فصار هذا الخبر حجة لنا من هذا الوجه.
الثالث: أن لفظ النصف كما يحتمل النصف في عدد الآيات فهو أيضًا يحتمل النصف في المعنى، قال عليه الصلاة والسلام: الفرائض نصف العلم، وسماه بالنصف من حيث أنه بحث عن أحوال الأموات، والموت والحياة قسمان، وقال شريح: أصبحت ونصف الناس علي غضبان، سماه نصفًا من حيث إن بعضهم راضون وبعضهم ساخطون، الرابع: إن دلائلنا في أن {بسم الله الرحمن الرحيم} آية من الفاتحة صريحة، وهذا الخبر الذي تمكسوا به ليس المقصود منه بيان أن {بسم الله الرحمن الرحيم} هل هي من الفاتحة أم لا، لكن المقصود منه بيان شيء آخر، فكانت دلائلنا أقوى وأظهر.
الخامس: أنا بينا أن قولنا أقرب إلى الاحتياط.
والجواب عن حجتهم الثانية ما قال الشافعي فقال: لعل عائشة جعلت {الحمد لله رب العالمين} اسمًا لهذه السورة، كما يقال: قرأ فلان {الحمد لله الذي خلق السموات} والمراد أنه قرأ هذه السورة، فكذا هاهنا، وتمام الجواب عن خبر أنس سيأتي بعد ذلك.
والجواب عن الحجة الثالثة أن التكرار لأجل التأكيد كثير في القرآن، وتأكيد كون الله تعالى رحمانًا رحيمًا من أعظم المهمات، والله أعلم.

.المسألة السابعة: في بيان عدد آيات هذه السورة:

رأيت في بعض الروايات الشاذة أن الحسن البصري كان يقول: هذه السورة ثمانِ آيات، فأما الرواية المشهورة التي أطبق الأكثرون عليها أن هذه السورة سبع آيات، وبه فسروا قوله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتيناك سَبْعًا مّنَ المثاني} [الحجر: 87] إذا ثبت هذا فنقول: الذين قالوا إن {بسم الله الرحمن الرحيم} آية من الفاتحة قالوا إن قوله: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين} آية تامة، وأما أبو حنيفة فإنه لما أسقط التسمية من السورة لا جرم قال قوله: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية، وقوله: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين} آية أخرى، إذا عرفت هذا فنقول: الذي قاله الشافعي أولى، ويدل عليه وجوه: الأول: أن مقاطع قوله {صراط الذين أنعمت عليهم} لا يشابه مقطع الآيات المتقدمة ورعاية التشابه في المقاطع لازم؛ لأنا وجدنا مقطاع القرآن على ضربين متقاربة ومتشاكلة فالمتقاربة كما في سورة قا والمتشاكلة كما في سورة القمر، وقوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ليس من القسمين، فامتنع جعله من المقاطع.
الثاني: أنا إذا جعلنا قوله {غير المغضوب عليهم} ابتداء آية فقد جعلنا أول الآية لفظ غير، وهذا اللفظ إما أن يكون صفة لما قبله أو استثناء عما قبله، والصفة مع الموصوف كالشيء الواحد، وكذلك الاستثناء مع المستنثى منه كالشيء الواحد وإيقاع الفصل بينهما على خلاف الدليل، إما إذا جعلنا قوله {صراط الذين أنعمت عليهم} إلى آخر السورة آية واحدة، كنا قد جعلنا الموصوف مع الصفة والمستثنى مع المستثنى منه كلامًا واحدًا وآية واحدة، وذلك أقرب إلى الدليل.
الثالث: أن المبدل منه في حكم المحذوف، فيكون تقدير الآية إهدنا {صراط الذين أنعمت عليهم} لكن طلب الاهتداء بصراط من أنعم الله عليهم لا يجوز إلا بشرطين: أن يكون ذلك المنعم عليه غير مغضوب عليه، ولا ضالًا، فإنا لو أسقطنا هذا الشرط لم يجز الاهتداء به، والدليل عليه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله كُفْرًا} [إبراهيم: 28] وهذا يدل على أنه قد أنعم عليهم إلا أنهم لما صاروا من زمرة المغضوب عليهم ومن زمرة الضالين لا جرم لم يجز الاهتداء بهم، فثبت أنه لا يجوز فصل قوله: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} عن قوله: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ} بل هذا المجموع كلام واحد، فوجب القول بأنه آية واحدة، فإن قالوا: أليس أن قوله {الحمد لله رب العالمين} آية واحدة، وقوله {الرحمن الرحيم} آية ثانية، ومع أن هذه الآية غير مستقلة بنفسها، بل هي متعلقة بما قبلها؟ قلنا: الفرق أن قوله {الحمد لله رب العالمين} كلام تام بدون قوله {الرحمن الرحيم} فلا جرم لم يمتنع أن يكون مجرد قوله {الحمد لله رب العالمين} آية تامة، ولا كذلك هذا، لما بينا أن مجرد قوله {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم} ليس كلامًا تامًا، بل ما لم يضم إليه قوله {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} لم يصح قوله {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم} فظهر الفرق.

.المسألة الثامنة: هل البسملة آية من أوائل سائر السور أم لا؟

ذكر بعض أصحابنا قولين للشافعي في أن {بسم الله الرحمن الرحيم} هل هي آية من أوائل سائر السور أم لا: أما المحققون من الأصحاب فقد اتفقوا على أن بسم الله قرآن من سائر السور، وجعلوا القولين في أنها هل هي آية تامة وحدها من أول كل سورة أو هي وما بعدها آية، وقال بعض الحنفية إن الشافعي خالف الإجماع في هذه المسألة لأن أحدًا ممن قبله لم يقل إن بسم الله آية من أوائل سائر السور، ودليلنا أن بسم الله مكتوب في أوائل السور بخط القرآن فوجب كونه قرآنًا، واحتج المخالف بما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سورة الملك: إنها ثلاثون آية، وفي سورة الكوثر: إنها ثلاث آيات، ثم أجمعوا على أن هذا العدد حاصل بدون التسمية، فوجب أن لا تكون التسمية آية من هذه السور، والجواب أنا إذا قلنا {بسم الله الرحمن الرحيم} مع ما بعده آية واحدة فهذا الإشكال زائل، فإن قالوا: لما اعترفتم بأنها آية تامة من أول الفاتحة فكيف يمكنكم أن تقولوا إنها بعض آية من سائر السور؟ قلنا: هذا غير بعيد، ألا ترى أن قوله {الحمد لله رب العالمين} آية تامة، ثم صار مجموع قوله: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} [يونس: 10] آية واحدة: فكذا هاهنا وأيضًا فقوله سورة الكوثر ثلاث آيات يعني ما هو خاصية هذه السورة ثلاث آيات، وأما التسمية فهي كالشيء المشترك فيه بين جميع السور، فسقط هذا السؤال.

.المسألة التاسعة: الجهر بالبسملة في الصلاة:

يروى عن أحمد بن حنبل أنه قال: التسمية آية من الفاتحة إلا أنه يسر بها في كل ركعة، وأما الشافعي فإنه قال: إنها آية منها ويجهر بها، وقال أبو حنيفة: ليست آية من الفاتحة إلا أنها يسر بها في كل ركعة ولا يجهر بها أيضًا، فنقول: الجهر بها سنّة، ويدل عليه وجوه وحجج.
الحجة الأولى: قد دللنا على أن التسمية آية من الفاتحة، وإذا ثبت هذا فنقول: الاستقراء دل على أن السورة الواحدة إما أن تكون بتمامها سرية أو جهرية، فأما أن يكون بعضها سريًا وبعضها جهريًا فهذا مفقود في جميع السور؛ وإذا ثبت هذا كان الجهر بالتسمية مشروعًا في القراءة الجهرية.
الحجة الثانية: أن قوله {بسم الله الرحمن الرحيم} لا شك أنه ثناء على الله وذكر له بالتعظيم فوجب أن يكون الإعلان به مشروعًا لقوله تعالى: {فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200] ومعلوم أن الإنسان إذا كان مفتخرًا بأبيه غير مستنكف منه فإنه يعلن بذكره ويبالغ في إظهاره أما إذا أخفى ذكره أو أسره دل ذلك على كونه مستنكفًا منه، فإذا كان المفتخر بأبيه يبالغ في الإعلان والإظهار وجب أن يكون إعلان ذكر الله أولى عملًا بقوله: {فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200].
الحجة الثالثة: هي أن الجهر بذكر الله يدل على كونه مفتخرًا بذلك الذكر غير مبالٍ بإنكار من ينكره، ولا شك أن هذا مستحسن في العقل، فيكون في الشرع كذلك؛ لقوله عليه السلام: «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن» ومما يقوي هذا الكلام أيضًا أن الإخفاء والسر لا يليق إلا بما يكون فيه عيب ونقصان فيخفيه الرجل ويسره، لئلا ينكشف ذلك العيب.
أما الذي يفيد أعظم أنواع الفخر والفضيلة والمنقبة فكيف يليق بالعقل إخفائه؟ ومعلوم أنه لا منقبة للعبد أعلى وأكمل من كونه ذاكرًا لله بالتعظيم، ولهذا قال عليه السلام: «طوبى لمن مات ولسانه رطب من ذكر الله» وكان علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: يا من ذكرُه شرف للذاكرين.